إن من مناقب الأمة المسلمة التي نالت بها قصب السبق على سائر الأمم، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما شهد الله لها بذلك بقوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ} [آل عمران: 110].
وظلت هذه الخاصية على مرِّ القرون عصمةً وأَمَنَةً للأمة، تحفظها بحفظ الله من الزيغ والانحراف، وتردها إلى جادة الحق وتهديها إلى سواء الصراط. وقيَّض الله لهذه المهمة عبر القرون أولي بقية ينهون عن الفساد في الأرض بشِقَّيه النظري والعملي.
أو الشبهات والشهوات، وحبب إليهم هذه الخصلة من خصال الإيمان واستعملهم فيها؛ فترى وجوههم ممعرةً ونفوسهم جياشة حين تُنتَهك حرمات الله، يغضبون لها أشدَّ من غضبهم لأنفسهم. ولَعمرُ الله! إن هذا لهو التدين الحق وعين الصدق، وأوثق عرى الإيمان.
والمشتغلون في هذا الباب يقفون على خط المواجهة الساخن أمام خصوم هذه الأمة الساعين لاستزلالها عن سبيل الله، في حين يقف كثير من الدعاة وطلبة العلم والعبَّاد والمحسنين في خطوط خلفية، أقل توترًا ومعاناة.
ويلقى أهل الحسبة في ذات الله من الأذى والعنت المادي والمعنوي والبدني والاجتماعي أمرًا عظيمًا، وذلك من ضرورات الوظيفة ولوازمها، كما قال لقمان لابنه: {وَأْمُرْ بِالْـمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17]، غير أن ذلك لا يثنيهم ولا يصدهم، وقد ذاقوا حلاوته ورأوا ثماره. فلله درُّهم، ما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم!
المحتسبون بشر أيضا:
والآمرون بالمعروف، الناهون عن المنكر، الحافظون لحدود الله، بشر كسائر البشر؛ يعتريهم ما يعتري البشر من قصورٍ وتقصير ما يعتري بقية أطباق الأمة من حكام وعلماء وقضاة ودعاة ومفتين ومربين، من نوازل يقابلونها باجتهادٍ مصيب.
وآخر دون ذلك، غير أنهم في جميع الأحوال يأوون إلى ركن شديد ومَهْيَعٍ رشيد، وهو نشدان الحق والعمل به، وتعظيم النصوص والخضوع لها، والانعتاق من أسْرِ التعصب والتقليد؛ كما وصف ابن القيم ـ رحمه الله ـ أسلافهم الناصحين للأمة من التابعين قائلًا:
«ثم سار على آثارهم الرعيل الأول من أتباعهم، ودرج على منهاجهم الموفقون من أشياعهم، زاهدين في التعصب للرجال، واقفين مع الحجة والاستدلال، يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه، ويستقلون مع الصواب حيث استقلت مضاربه. إذا بدا لهم الدليل بأُخذته طاروا إليه زرافات ووحدانًا، وإذا دعاهم الرسول إلى أمر انتدبوا إليه ولا يسألونه عمَّا قال برهانًا. ونصوصه أجلّ في صدورهم وأعظم في نفوسهم من أن يقدِّموا عليها قول أحد من الناس، أو يعارضـوهـا بــرأي أو قياس»(إعلام الموقعين:2/10).
وهذه نظرات متأملٍ مقصِّرٍ في هذا الباب، وخفقات مشفقٍ على صفوة الأصحاب، وتنبيهات وملاحظات وأسباب، أسوقها للقائمين بحدود الله تجاه الواقعين فيها، في زمن اشتد فيه الكرب وحمي الوطيس بين الممسِّكين بالكتاب والمتفلتين منه، مثبِّتًا مسدِّدًا إن كان في القول خير، وإن كانت الأخرى فمِِنِّي ومن الشيطان، والله المستعان وعليه التكلان.
أولًا: تحرير المسألة وإنعام النظر فيها من الناحية الشرعية، والتحقق من كون الأمر منكرًا في نظر الشارع؛ بإعمال الأدلة وإقامة الحجة على نكارته بالحق والميـزان، وألا يكون الإنكار صادرًا عن دهشة الجديد ومخالفة الإلف، وألا يكون المنكر متعلقًا بوصف تابع فينكر الجميع مع إمكان إزالة التابع وإبقاء الأصل. ومردُّ ذلك إلى أولي العلم، كما قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].
ثانيًا: إدراك الحال إدراكًا صحيحًا، دون تجاوز أو قصور، ومعرفة أطرافها دون تعدٍّ أو شطط. وأصل ذلك في كتاب الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[الحجرات:6].
كثيرًا ما يقع خطأ بشري والتباس غير مقصود، أو يسبق إلى الذهن معنى أو تصور غير صحيح في نقل اسم أو تصوير حادثة، أو يختلط الوصف بالتحليل فيفضي إلى نتائج خاطئة. لا بد من التدرب على الأناة والتثبت، وعدم حسبان ذلك تثبيطًا أو تقاعسًا؛ فلأََنْ يخطئ الإنسان في التبرئة خير من أن يخطئ في التجريم.
ثالثًا: الأناة والصدور عن رأي حرٍ رشيد لا يحمل عليه عاطفة جامحة، أو لومة لائم، أو دفع دافع، ثمَّ مقامان لا بد من شهودهما: معرفة حكم الله في واقعة معينة، وإمكان إجراء الحكم فيها. وقد يقع في بعض المواقف نوعٌ من (الاستركاض) من قِبَلِ بعض الغيوريـن، لا يتيح للسامع إلا أن يجري في المضمار مع الراكضين، دون تبصُّر مستقل وصدور عن موقف مسؤول، وربما يُمارَس نوعٌ من (الإرهاب الفكري) بإخراج مازح أو إيحاءٍ بالإقصاء. وينبغي ألا يصد أيٌّ من ذلك المخلصَ أن يستبصر لنفسه ولإخوانه؛ فربما دفع الله بأناته شرًا كثيرًا.
رابعًا: السعي للمنع والدفع، وإلا فالتخفيف والرفع. هكذا جرت سُنَّة الله أن يبلوَ بعض عباده ببعض، وما لا يُدرك كله لا يُترك جله، وحنانيك! بعض الشر أهون من بعض، والزمن جزء من الحل؛ فاصبر إن العاقبة للتقوى. وتأمل في قول شعيب ـ عليه السلام ـ: {إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]، فإنه يدل على نسبية في العمل: (ما استطعت)، ورضى مسبق بالقدر بعد استيفاء الأسباب.
إن المطالب المثالية والحلول الجذرية توجد في الأذهان ولا توجد في الأعيان. وغياب هذا المعنى ربما أدى بصاحبه إلى إحدى خاتمتين: الانفجار أو الإحباط.
خامسًا: عدم دفع المفسدة بأعظم منها، والتبصر في عواقب الأمور ومآلاتها، وحسن تقدير المصالح والمفاسد؛ فقد يغضُّ الفقيه طرفه عن منكر أصغر التماسًا لدفع منكر أكبر، وشواهد ذلك من السنة المطهرة وطريقة السلف معروفة مشهورة.
سادسًا: الحذر من القياس الفاسد؛ بإلحاق فرعٍ بأصل لا يشترك معه في العلة. ومما يقع كثيرًا أن يُستشهد بموقف لفلان أو علاَّن من أهل العلم والإمامة في الدين، على موقف غير مطابق من بعــض الوجــوه. فلا بد من التنبه لصور الاتفاق والافتراق.
سابعًا: الوقوف عند الحدود الفاصلة بين الاحتساب والخروج، ومراعاة أصول أهل السنة والجماعة في لزوم الجماعة واحتمال الأذى والصبر على المكــاره، قــال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في حوادث سنة اثنتين ومئتين، إبَّان خلافة المأمون العباسي:
(وفيها ظفر إبراهيم بن المهدي بسهل بن سلامة المطوع، فسجنه. وذلك أن التف عليه جماعة من الناس يقومون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن كانوا قد جاوزوا الحد، وأنكروا على السلطان، ودعوا إلى القيام بالكتاب والسنة، وصار باب داره كأنه باب دار السلطان؛ عليه السلاح والرجال، وغير ذلك من أبَّهة الملك، فقاتله الجند فكسروا أصحابه، فألقى السلاح، وصار بين النساء والنظَّارة، ثم اختفى في بعض الدور فأُخِذَ وجيء به إلى إبراهيم فسجنه سنةً كاملة)(البداية والنهاية:10/248)
ونلحظ في نفَس ابن كثير انتقادًا لهذه الفئة المحتسبة، لا من جهة بواعثها ومطالبها، ولكن من جهة أدائها وتجاوزها.
وينبغي في هذا المقام التمييز بين المنكر المتعلق بالأحكام السلطانية، من إقامة حدود أو تعزير أو بسط يد، والمنكر الذي يتعين تغييره على أفراد الناس.
ثامنًا: إبقاء خطوط التواصل مفتوحة مع أولي الأمر، وعدم التصعيد الذي يورث القطيعة والضغينة، ويمنع التعاون على البر والتقوى والتناهي عن الإثـم والعدوان مستقبلًا. وليـس من صالح الأمة أن تصل إلى مرحلة (الأزمة) بحـيث تبدو السـبل موصدة، والأنفاس محبوسة، والموقف قابلًا للانفجار، لا بد من قدر من المراوحة والأريحية حتى تنفرج الأزمة، وإن كان ببعض التنازلات. إن الأجواء المتوترة المأزومة تتيح المجال للاجتهادات الخرقاء، وتُخرج القضية من أيدي العقلاء، وتجعلهم في موقع الانسياق والاضطرار بعد أن كانوا في موقع التوجيه والاختيار.
تاسعًا: التحرر من الخطاب العاطفي التهييجي الذي يغشى البصر ويشوش البصيرة، وعدم تسويق الإشاعات والبلاغات والإشارات الغامضة، والترفع عن اللمز والاستفزاز بغرض حشد التأييد وتكثير المواقف.
عاشرًا: التحرز من إطلاق ألقاب السوء على المخالف جزافًا، من جنس: (علماني)، (فاسق)، (خبيث) ونحوها، فضلًا عن التكفير بلا بينة. وهذا المسلك، فوق ما فيه من إثم وحوبة إذا كان بغير حق، فإنه يستعدي المخالف، ويكسبه تعاطف بعض الناس في كثير من الأحوال.
حادي عشر: مراعاة تفاوت المحتسبين في المدارك والعواطف، والحذر من بعض الإطلاقات والتحريضات التي تحدث انفعالات لا تنضبط عند كل أحد.
ثاني عشر: التعاذر وإحسان الظن عند اختلاف النظر بين المصلحين، وعدم حمل الآخرين على رأي واحد في المسائل الاجتهادية وجفاء المخالف واستحداث الضغائن. ولم يزل العلماء يختلفون في المسألة الواحدة لأسباب شتى ويتعاذرون في ذلك مع وجود الأدلة النصية؛ فكيف بالمحتسبين في مسائل اجتهادية طارئة! فلا بد من سعة الأفق، ورحابة الصدر، واحتمال الخلاف؛ حتى لا تعود المفسدة الناشئة عن الخلاف أشد من المفسدة المختلف في تقديرها.
ثالث عشر: التكامل بين العاملين للدين؛ من علماء ودعاة ومحتسبين، وأن تجتهد كل طائفة فيما أقامها الله فيه، دون حطِّ أو إزراء على غيرها فيما قصرت عنه. وهكذا جرت سُنَّة الله في خلقه؛ ألا يساق الناس مساقًا واحدًا؛ فقد فاوت بينهم في الأخلاق كما فاوت بينهم في الأرزاق.
رابع عشر: عدم قطع طريق الرجعة على أهل المنكر وعدم إلجائهم إلى العناد وأن تأخذهم العزة بالإثم؛ بسبب حصرهم في زوايا ضيقة، لا يجدون لأنفسهم مخرجًا كريمًا وتحلحلًا سائغًا مما أخطؤوا فيه.
خامس عشر: العناية بالبحث العلمي والدراسات التطبيقية الواعية، وتأسيس المراكز المتخصصة لدراسة المنكرات المستوطنة والظاهرات النشاز في المجتمع وتحديد أسبابها، وتقديم الحلول العملية لاجتثاثها، أو التخفيف منها، وفق آليات البحث العلمي الحديث. ولا يسوغ بحال أن تبقى قضية إنكار المنكر ردود أفعال وحالة طوارئ واستنفار، لا يتم التعاطي معها حتى تضع جرانها؛ فينشأ ما يشبه حالة (تسونامي) في صفوف الغيورين لا يخلو من خسائر وأضرار.
إن التنبه المبكر للمنكرات الوافدة والعلاج المطمئن لها يحتاج إلى توفر الدرس، والبحث، والتمحيص. وليس كثيرًا أن توجد مؤسسات خاصة للعناية بهذه المخاطر كما توجد مثيلاتها من المؤسسات الصحية؛ فالوقاية خير من العلاج.
هذا، والله المسؤول أن يبرم لهذه الأمة أمر خير، يُعزُّ فيه أهل طاعته ويُذلُّ فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر. وصلى الله على محمد، وعلى آله وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكاتب: د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي (البيان 242)
المصدر: موقع الشبكة الإسلامية